" ليس في نيتي أن أكتب عن هموم الحيوانات؛ لأن ما يقال عن الإنسان كثير. لكن الجرو المجنح الذي صادفته في حظيرة الحيوانات، شغلني. قصته طريفة ومحزنة. كان جروا وأراد أن يكبر بسرعة ليصبح كلبا مهما. ظل ينبح ويحتج حتى ينتبه له المستخدمون بالمحطة . أخيرا وجد ضالته النضالية في نقابة صفراء. كانت ميوله دينية، فأعجبه الأمر، ولكن مشكلة النقابة المعنية أن الجزء الثاني منها كان نضاليا وحتى أمنيا. فأقنع نفسه بأن الاختلاف رحمة، فصمت عن النباح. واستطاع وهو في مقتبل العمر أن يؤلف بين الدين والنضال العلماني ودافع عن الاثنين معا. لكن النقابة أفلست أو لنقل إن مهمتها الأمنية انتهت، فوجد نفسه بدون أسباب للنضال. عاد إلى نباحه، فلم يسمعه أحد. فكر في مغادرة الساحة، لكنه خاف لأنه لم يكن يملك أية تكوين يساعده في غربةه النضالية. أنشأ خطابا نباحيا ظل يردد من خلاله، يشتم كل من غادر النقابة في المحن الصعبة ونسي في غمرة نباحه، أن هؤلاء المناضلين اضطروا إلى مغادرة منضمتهم بسبب الفاشيات والدكتاتوريات المستشرية بالقطاع و المركزية الأم. سمع في مرة من المرات أن سلوقيا مخنثا (نوع من أنواع كلاب الصيد) جاء إلى العاصمة الإقتصادية،. زاره وعرض عليه خدماته. امتعض في البداية لأنه وجد عنده كلبا ضخما من سلالة البولدوك، اعترافا بخدماته الجليلة. في النهاية وجد الثلاثة ضالتهم: الجرو يحتاج إلى عمل وإلى من يشمله برعايته، فأدخل ضمن طاقم البولدوك، السلوقي يحتاج إلى دعاية ليراه المسؤولون ويرفعوه إلى رتبة أعلى، فوجد ضالته في البولدوك وفي الجرو أيضا، والبولدوك الذي كان يبحث عن اعتراف بخدماته الجليلة، فوجد فضاءه وناسه. وكوّنوا ثالوثا حاقدا على كل من ليس كلبا مثلهم. وبدؤوا في عملية شراء الذمم الصغيرة، وتحطيم كل شيء واقف. كان المستخدمون يتساءلون ويتغامزون: كيف التقى الثلاثة وكل واحد منهم يعتقد أنه يستعمل الآخر وجميعهم تحت وصاية أكبر؟ كان الجرو هو الحلقة الأضعف. أصبح يقدم الخدمات للاثنين إلى أن أصبح رئيسا إنقلابيا علي أحد المرافق مختصا في اقتفاء آثار المرضي. كوّن من حوله حلقة من الجراوي الصغيرة، تساعده على الإحساس بقيمته. كلما تميز شخص في المؤامرة، أو تحصل على اعتراف ما، كان يكيل التهم اليومية للجميع في كل المجالس التي تروق للكلاب الثلاثة و تحسسهم بوجودهم. كان مثل بهلوان، يسلي ويرقص. و مع الأيام كبر غُبنه. وضع على رأسه "بيري" على اعتبار أنه علامة المناضلين الكبار. ولكن لم تنتبه لخزعبلاته حتى الكلاب التي تحيط به. بعد سنين قليلة، لم يحصل إلا على الرماد.. أصيب بحالة اكتئاب عندما عرف أن البولدوك أصبح متورطا حتى عنقه مع الأجهزة التي خلقته، و أما السلوقي فقد استدعي ليجيب عن تهم السرقات وعن الصفقات المالية التي عقدها مع من نفخوه ونفخوا حسابه. قال الجرو، بعد أن ملأه باليأس: ليكن.. لقد خسرت كل شيء، ولكني سأجرب فرصتي الأخيرة و سوف أحرق كل المراحل. وضع لنفسه جناحين وصعد إلى قمة الصندوق اليتيم، متبوعا بحلقة الكلاب الصغيرة، وطلب منها أن تدفع به إلى الأمام ليطير. ففعلت بلا تردد.
وعندما تفطن إلى أنه كان يهوي من الأعالي على رأسه مثل بهلوان نيتشه، اكتشف فجأة أن السنين التي قضاها في النباح لم تأت بأي شيء نافع. فأغمض عينيه وترك نفسه يتهاوى كورقة شجرة ميتة ...
طبعا قصة الكلاب الثلاثة، ليست لي، فهي من عمق رواية الكاتب الإنجليزي: جورج أورويل: حظيرة الحيوانات. و ليطمئن الذين رأوا شبها لهم في هذه القصة، فليس ذلك إلا من قبيل المصادفات الغريبة. سبحانه، يخلق من الشبه أربعين، وهذا واحد منها فقط. لنا عودة إلى حظيرة أورويل.